سورة طه - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (طه)


        


{قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)}
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: القراءة المشهورة: {إِنْ هاذان لساحران} ومنهم من ترك هذه القراءة وذكروا وجوهاً أخر.
أحدها: قرأ أبو عمرو وعيسى بن عمر: (إن هذين لساحران) قالوا: هي قراءة عثمان وعائشة وابن الزبير وسعيد بن جبير والحسن رضي الله تعالى عنه واحتج أبو عمرو وعيسى على ذلك بما روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سئلت عن قوله: {إِنْ هاذان لساحران} وعن قوله: {إِنَّ الذين ءَامَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون والنصارى} [المائدة: 69] في المائدة، وعن قوله: {لكن الراسخون فِي العلم مِنْهُمْ} [النساء: 162] إِلى قوله: {والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكواة} [النساء: 162] فقالت يا ابن أخي هذا خطأ من الكاتب، وروي عن عثمان أنه نظر في المصحف فقال: أرى فيه لحناً وستقيمه العرب بألسنتها، وعن أبي عمرو أنه قال: إني لأستحي أن أقرأ: {إِنْ هاذان لساحران}.
وثانيها: قرأ ابن كثير: (إن هذان) بتخفيف إن وتشديد نون هذان.
وثالثها: قرأ حفص عن عاصم إن هذان بتخفيف النونين.
ورابعها: قرأ عبد الله بن مسعود: {وَأَسَرُّواْ النجوى أنْ هاذان} بفتح الألف وجزم نونه (و) ساحران بغير لام.
وخامسها: عن الأخفش: {إِنْ هاذان لساحران} خفيفة في معنى ثقيلة وهي لغة قوم يرفعون بها ويدخلون اللام ليفرقوا بينها وبين التي تكون في معنى ما.
وسادسها: روى عن أبي بن كعب: (ما هذان إلا ساحران) وروي عنه أيضاً: (إن هذان لساحران) وعن الخليل مثل ذلك، وعن أبي أيضاً: (إن ذان لساحران) فهذه هي القراءات الشاذة المذكورة في هذه الآية، واعلم أن المحققين قالوا: هذه القراءات لا يجوز تصحيحها لأنها منقولة بطريق الآحاد، والقرآن يجب أن يكون منقولاً بالتواتر إذ لو جوزنا إثبات زيادة في القرآن بطريق الآحاد لما أمكننا القطع بأن هذا الذي هو عندنا كل القرآن لأنه لما جاز في هذه القراءات أنها مع كونها من القرآن ما نقلت بالتواتر جاز في غيرها ذلك، فثبت أن تجويز كون هذه القراءات من القرآن يطرق جواز الزيادة والنقصان والتغيير إلى القرآن وذلك يخرج القرآن عن كونه حجة ولما كان ذلك باطلاً فكذلك ما أدى إليه، وأما الطعن في القراءة المشهورة فهو أسوأ مما تقدم من وجوه:
أحدها: أنه لما كان نقل هذه القراءة في الشهرة كنقل جميع القرآن فلو حكمنا ببطلانها جاز مثله في جميع القرآن وذلك يفضي إلى القدح في التواتر وإلى القدح في كل القرآن وأنه باطل، وإذا ثبت ذلك امتنع صيرورته معارضاً بخبر الواحد المنقول عن بعض الصحابة.
وثانيها: أن المسلمين أجمعوا على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى وكلام الله تعالى لا يجوز أن يكون لحناً وغلطاً فثبت فساد ما نقل عن عثمان وعائشة رضي الله عنهما أن فيه لحناً وغلطاً.
وثالثها: قال ابن الأنباري إن الصحابة هم الأئمة والقدوة فلو وجدوا في المصحف لحناً لما فوضوا إصلاحه إلى غيرهم من بعدهم مع تحذيرهم من الإبتداع وترغيبهم في الاتباع، حتى قال بعضهم: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم. فثبت أنه لابد من تصحيح القراءة المشهورة. واختلف النحويون فيه وذكروا وجوهاً: الوجه الأول: وهو الأقوى أن هذه لغة لبعض العرب وقال بعضهم هي لغة بلحارث بن كعب، والزجاج نسبها إلى كنانة وقطرب نسبها إلى بلحارث بن كعب ومراد وخثعم وبعض بني عذرة، ونسبها ابن جني إلى بعض بني ربيعة أيضاً وأنشد الفراء على هذه اللغة:
فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى *** مساغاً لناباه الشجاع لصمما
وأنشد غيره:
تزود منا بين أذناه ضربة *** دعته إلى هابي التراب عقيم
قال الفراء وحكى بعض بني أسد أنه قال هذا خط يدا أخي أعرفه.
وقال قطرب هؤلاء يقولون: رأيت رجلان واشتريت ثوبان قال رجل من بني ضبة جاهلي:
أعرف منها الجيد والعينانا *** ومنخرين أشبها ظبيانا
وقوله ومنخرين على اللغة الفاشية وما وراء ذلك على لغة هؤلاء.
وقال آخر:
طاروا علاهن فطر علاها *** واشدد بمثنى حقب حقواها
وقال آخر:
كأن صريف ناباه إذا ما *** أمرهما صرير الأخطبان
قال بعضهم: الأخطبان ذكر الصردان، فصيرهما واحداً فبقي الاستدلال بقوله صريف ناباه، قال: وأنشدني يونس لبعض بني الحرث:
كأن يميناً سحبل ومصيفه *** مراق دم لن يبرح الدهر ثاويا
وأنشدوا أيضاً:
إن أباها وأبا أباها *** قد بلغا في المجد غايتاها
وقال ابن جني روينا عن قطرب:
هناك أن تبكي بشعشعان *** رحب الفؤاد طائل اليدان
ثم قال الفراء وذلك وإن كان قليلاً أقيس لأن ما قبل حرف التثنية مفتوح، فينبغي أن يكون ما بعده ألفاً ولو كان ما بعده ياء ينبغي أن تنقلب ألفاً لانفتاح ما قبلها وقطرب ذكر أنهم يفعلون ذلك فراراً إلى الألف التي هي أخف حروف المد هذا أقوى الوجوه في هذه الآية ويمكن أن يقال أيضاً: الألف في هذا من جوهر الكلمة والحرف الذي يكون من جوهر الكلمة لا يجوز تغييره بسبب التثنية والجمع لأن ما بالذات لا يزول بالعرض فهذا الدليل يقتضي أن لا يجوز أن يقال: (إن هذين) فلما جوزناه فلا أقل من أن يجوز معه أن يقال إن هذان.
الوجه الثاني: في الجواب أن يقال إن هاهنا بمعنى نعم قال الشاعر:
ويقلن شيب قد علا *** ك وقد كبرت فقلت إنه
أي فقلت نعم فالهاء في إنه هاء السكت كما في قوله تعالى: {هَلَكَ عَنّي سلطانيه} [الحاقة: 29] وقال أبو ذؤيب:
شاب المفارق إن إن من البلى *** شيب القذال مع العذار الواصل
أي نعم إن من البلى فصار إن كأنه قال نعم هذان لساحران، واعترضوا عليه فقالوا: اللام لا تدخل في الخبر على الاستحسان إلا إذا كانت إن داخلة في المبتدأ، فأما إذا لم تدخل أن على المبتدأ فمحل اللام المبتدأ إذ يقال لزيد اعلم من عمرو ولا يقال زيد لأعلم من عمرو، وأجابوا عن هذا الاعتراض من وجهين:
الأول: لا نسلم أن اللام لا يحسن دخولها على الخبر والدليل عليه قوله:
أم الحليس لعجوز شهر به *** ترضى من اللحم بعظم الرقبه
وقال آخر:
خالي لأنت ومن جرير خاله *** ينل العلاء ويكرم الأخوالا
وأنشد قطرب:
ألم تكن حلفت بالله العلي *** أن مطاياك لمن خير المطي
وإن رويت إن بالكسر لم يبق الاستدلال إلا أن قطرباً قال: سمعناه مفتوح الهمزة وأيضاً فقد أدخلت اللام في خبر أمسى، قال ابن جني أنشدنا أبو علي:
مروا عجالى فقالوا كيف صاحبكم *** فقال من سئلوا أمسى لمجهودا
وقال قطرب وسمعنا بعض العرب يقول: أراك المسالمي وإني رأيته لشيخاً وزيد والله لواثق بك وقال كثير:
وما زلت من ليلى لدن أن عرفتها *** لكالهائم المقصى بكل بلاد
وقال آخر:
ولكنني من حبها لعميد ***
وقال المعترض هذه الأشعار من الشواذ وإنما جاءت كذا لضرورة الشعر وجل كلام الله تعالى عن الضرورة وإنما تقرر هذا الكلام إذا بينا أن المبتدأ إذا لم يدخل عليه إن وجب إدخال اللام عليه لا على الخبر وتحقيقه أن اللام تفيد تأكيد موصوفية المبتدأ بالخبر واللام تدل على حالة من حالات المبتدأ وصفة من صفاته فوجب دخولها على المبتدأ لأن العلة الموجبة لحكم في محل لابد وأن تكون مختصة بذلك المحل لا يقال هذا مشكل بما إذا دخلت إن على المبتدأ فإن هاهنا يجب إدخال اللام على الخبر مع أن ما ذكرتموه حاصل فيه لأنا نقول ذلك لأجل الضرورة وذلك لأن كلمة إن للتأكيد واللام للتأكيد فلو قلنا: إن لزيداً قائم لكنا قد أدخلنا حرف التأكيد على حرف التأكيد وذلك ممتنع فلما تعذر إدخالها على المبتدأ لا جرم أدخلناها على الخبر لهذه الضرورة، وأما إذا لم يدخل حرف إن على المبتدأ كانت هذه الضرورة زائلة فوجب إدخال اللام على المبتدأ لا يقال إذا جاز إدخال حرف النفي على حرف النفي في قوله:
ما إن رأيت ولا سمعت به *** كاليوم طالبني أنيق أجرب
والغرض به تأكيد النفي فلم لا يجوز إدخال حرف التأكيد على حرف التأكيد والغرض به تأكيد الإثبات لأنا نقول الفرق بين البابين أن قولك زيد قائم يدل على الحكم بموصوفية زيد بالقيام فإذا قلت إن زيداً قائم فكلمة إن تفيد تأكيد ذلك الحكم فلو ذكرت مؤكداً آخر مع كلمة إن صار عبثاً، أما لو قلت: رأيت فلاناً فهذا للثبوت فإذا أدخلت عليه حرف النفي أفاد حرف النفي معنى النفي ولا يفيد التأكيد لأنه مستقل بإفادة الأصل فكيف يفيد الزيادة فإذا ضممت إليه حرف نفي آخر صار الحرف الثاني مؤكداً للأول فلا يكون عبثاً فهذا هو الفرق بين البابين فهذا منتهى تقرير هذا الاعتراض وهو عندي ضعيف، لأن الكل اتفقوا على أنه إذا اجتمع النقل والقياس فالنقل أولى، ولأن هذه العلل في نهاية الضعف فكيف يدفع بها النقل الظاهر.
الوجه الثاني: في الجواب عن قولهم اللام لا يحسن دخولها على الخبر إلا إذا دخلت كلمة إن على المبتدأ كما ذكره الزجاج فقال: إن وقعت موقع نعم واللام في موقعها والتقدير نعم هذان لهما ساحران فكانت اللام داخلة على المبتدأ لا على الخبر. قال: وعرضت هذا القول على محمد بن يزيد وعلى إسماعيل بن إسحاق فارتضياه وذكرا أنه أجود ما سمعناه في هذا.
قال ابن جنى: هذا القول غير صحيح لوجوه: الوجه الأول: أن الأصل أن المبتدأ إنما يجوز حذفه لو كان أمراً معلوماً جلياً ولولا ذلك لكان في حذفه مع الجهل به ضرب من تكليف علم الغيب للمخاطب وإذا كان معروفاً فقد استغنى بمعرفته عن تأكيده باللام لأن التأكيد إنما يحتاج إليه حيث لم يكن العلم به حاصلاً.
الوجه الثاني: أن الحذف من باب الاختصار والتأكيد من باب الإطناب فالجمع بينهما غير جائز ولأن ذكر المؤكد وحذف التأكيد أحسن في العقول من العكس.
الوجه الثالث: امتناع أصحابنا البصريين من تأكيد الضمير المحذوف العائد على المبتدأ في نحو قولك زيد ضربت فلا يجيزون زيد ضربت نفسه على أن يجعل النفس توكيداً للهاء المؤكدة المقدرة في ضربت أي ضربته لأن الحذف لا يكون إلا بعد التحقيق والعلم به، وإذا كان كذلك فقد استغنى عن تأكيده فكذا هاهنا.
الوجه الرابع: أن جميع النحويين حملوا قول الشاعر: أم الحليس لعجوز شهر به. على أن الشاعر أدخل اللام على الخبر ضرورة ولو كان ما ذهب إليه الزجاج جائزاً لما عدل عنه النحويون ولما حملوا الكلام عليه على الإضطرار إذا وجدوا له وجهاً ظاهراً، ويمكن الجواب عن اعتراض ابن جنى بأنه إنما حسن حذف المبتدأ لأن في اللفظ ما يدل عليه وهو قوله: هذان أما لو حذف التأكيد فليس في اللفظ ما يدل عليه فلا جرم كان حذف المبتدأ أولى من حذف التأكيد، وأما امتناعهم من تأكيد الضمير في قولهم: زيد ضربت نفسه فذاك إنما كان لأن إسناد الفعل إلى المظهر أولى من إسناده إلى المضمر فإذا قال زيد: ضربت نفسه كان قوله نفسه مفعولاً فلا يمكن جعله تأكيداً للضمير فتأكيد المحذوف إنما امتنع هاهنا لهذه العلة لا لأن تأكيد المحذوف مطلقاً ممتنع وأما قوله: النحويون حملوا قول الشاعر: أم الحليس لعجوز شهر به. على أن الشاعر أدخل اللام على الخبر ضرورة فلو جاز ما قاله الزجاج لما عدل عنه النحويون، فهذا اعتراض في نهاية السقوط لأن ذهول المتقدمين عن هذا الوجه لا يقتضي كونه باطلاً فما أكثر ما ذهل المتقدم عنه وأدركه المتأخر فهذا تمام الكلام في شرح هذا.
الوجه الثالث: في الجواب أن كلمة إن ضعيفة في العمل لأنها تعمل بسبب مشابهة الفعل فوجب كونها ضعيفة في العمل وإذا ضعفت جاز بقاء المبتدأ على إعرابه الأصلي وهو الرفع.
المقدمة الأولى: أنها تشبه الفعل وهذه المشابهة حاصلة في اللفظ والمعنى.
أما اللفظ فلأنها تركبت من ثلاثة أحرف وانفتح آخرها ولزمت الأسماء كالأفعال، وأما المعنى فلأنها تفيد حصول معنى في الإسم وهو تأكيد موصوفيته بالخبر كما أنك إذا قلت: قام زيد فقولك قام أفاد حصول معنى في الإسم.
المقدمة الثانية: أنها لما أشبهت الأفعال وجب أن تشبهها في العمل فذلك ظاهر بناء على الدوران.
المقدمة الثالثة: أنها لم تنصب الاسم وترفع الخبر فتقريره أن يقال: إنها لما صارت عاملة فإما أن ترفع المبتدأ والخبر معاً أو تنصبهما معاً أو ترفع المبتدأ وتنصب الخبر أو بالعكس والأول باطل لأن المبتدأ والخبر كانا قبل دخول إن عليهما مرفوعين فلو بقيا كذلك بعد دخولها عليهما لما ظهر له أثر ألبتة ولأنها أعطيت عمل الفعل، والفعل لا يرفع الإسمين فلا معنى للاشتراك.
والقسم الثاني: أيضاً باطل لأن هذا أيضاً مخالف لعمل الفعل لأن الفعل لا ينصب شيئاً مع خلوه عما يرفعه.
والقسم الثالث: أيضاً باطل لأنه يؤدي إلى التسوية بين الأصل والفرع فإن الفعل يكون عمله في الفاعل أولاً بالرفع وفي المفعول بالنصب فلو جعل النصب هاهنا كذلك لحصلت التسوية بين الأصل والفرع، ولما بطلت الأقسام الثلاثة تعين.
القسم الرابع: وهو أنها تنصب الاسم وترفع الخبر، وهذا مما ينبه على أن هذه الحروف دخيلة في العمل لا أصيلة لأن تقديم المنصوب على المرفوع في باب العمل عدول عن الأصل فذلك يدل على أن العمل بهذه الحروف ليس بثابت بطريق الأصالة بل بطريق عارض.
المقدمة الرابعة: لما ثبت أن تأثيرها في نصب الاسم بسبب هذه المشابهة وجب جواز الرفع أيضاً، وذلك لأن كون الاسم مبتدأ يقتضي الرفع ودخول إن على المبتدأ لا يزيل عنه وصف كونه مبتدأ لأنه يفيد تأكيد ما كان لا زوال ما كان إذا ثبت هذا فنقول: وصف كونه مبتدأ يقتضي الرفع وحرف إن يقتضي النصب ولكن المقتضى الأول أولى بالاقتضاء من وجهين:
أحدهما: أن وصف كونه مبتدأ صفة أصلية للمبتدأ ودخول إن عليه صفة عرضية والأصل راجح على العارض.
والثاني: أن اقتضاء وصف المبتدأ للرفع أصلي واقتضاء حرف إن للنصب صفة عارضة بسبب مشابهتها بالفعل فيكون الأول أولى فثبت بمجموع ما قررنا أن الرفع أولى من النصب فإن لم تحصل الأولوية فلا أقل من أصل الجواز ولهذا السبب إذا جئت بخبر إن ثم عطفت على الاسم إسماً آخر جاز فيه الرفع والنصب معاً.
الوجه الرابع: في الجواب قال الفراء: هذا أصله ذا زيدت الهاء لأن ذا كلمة منقوصة فكملت بالهاء عند التنبيه وزيدت ألفاً للتثنية فصارت هذا إن فاجتمع ساكنان من جنس واحد فاحتيج إلى حذف واحد ولا يمكن حذف ألف الأصل لأن أصل الكلمة منقوصة فلا تجعل أنقص فحذف ألف التثنية لأن النون يدل عليه فلا جرم لم تعمل إن لأن عملها في ألف التثنية، وقال آخرون: الألف الباقي إما ألف الأصل أو ألف التثنية. فإن كان الباقي ألف الأصل لم يجز حذفها لأن العامل الخارجي لا يتصرف في ذات الكلمة، وإن كان الباقي ألف التثنية فلا شك أنهم أنابوها مناب ألف الأصل، وعوض الأصل أصل لا محالة فهذا الألف أصل فلا يجوز حذفه ويرجع حاصل هذا إلى الجواب الأول.
الوجه الخامس: في الجواب حكى الزجاج عن قدماء النحويين أن الهاء هاهنا مضمرة والتقدير إنه هذان لساحران، وهذه الهاء كناية عن الأمر والشأن، فهذا ما قيل في هذا الموضع، فأما من خفف فقرأ إن هذان لساحران فهو حسن فإن ما بعد الخفيفة رفع واللام بعدها في الخبر لازمة واجبة وإن كانت في إن الثقيلة جائزة ليظهر الفرق بين إن المؤكدة وإن النافية.
قال الشاعر:
وإن مالك للمرتجى إن تضعضعت *** رحا الحرب أو دارت على خطوب
وقال آخر:
إن القوم والحي الذي أنا منهم *** لأهل مقامات وشاء وجامل
الجامل جمع جمل، ثم من العرب من يعمل إن ناقصة كما يعملها تامة اعتباراً بكان فإنها تعمل وإن نقصت في قولك: لم يكن لبقاء معنى التأكيد، وإن زال الشبه اللفظي بالفعل لأن العبرة للمعنى، وهذه اللغة تدل على أن العبرة في باب الإعمال الشبه المعنوي بالفعل وهو إثبات التوكيد دون الشبه اللفظي كما أن التعويل في باب كان على المعنى دون اللفظ لكونه فعلاً محضاً، وأما اللغة الظاهرة وهي ترك إعمال إن الخفيفة دالة على أن الشبه اللفظي في إن الثقيلة أحد جزأي العلة في حق عملها وعند الخفة زال الشبه فلم تعمل بخلاف السكون فإنه عامل بمعناه لكونه فعلاً محضاً ولا عبرة للفظه.
المسألة الثانية: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر ما أسروه من النجوى حكى عنهم ما أظهروه ومجموعه يدل على التنفير عن موسى عليه السلام ومتابعة دينه. فأحدها: قولهم: {هاذان لساحران} وهذا طعن منهم في معجزات موسى عليه السلام ثم مبالغة في التنفير عنه لما أن كل طبع سليم يقتضي النفرة عن السحر وكراهة رؤية الساحر، ومن حيث إن الإنسان يعلم أن السحر لا بقاء له فإذا اعتقدوا فيه السحر قالوا: كيف نتبعه فإنه لا بقاء له ولا لدينه ولا لمذهبه.
وثانيها: قوله: {يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ} وهذا في نهاية التنفير لأن المفارقة عن المنشأ، والمولد شديدة على القلوب، وهذا هو الذي حكاه الله تعالى عن فرعون في قوله: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ ياموسى} [طه: 57] وكأن السحرة تلقفوا هذه الشبهة من فرعون ثم أعادوها.
وثالثها: قوله: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى} وهذا أيضاً له تأثير شديد في القلب فإن العدو إذا جاء واستولى على جميع المناصب والأشياء التي يرغب فيها فذلك يكون في نهاية المشقة على النفس فهم ذكروا هذه الوجوه للمبالغة في التنفير عن موسى والترغيب في دفعه وإبطال أمره وهاهنا بحثان:
البحث الأول: قال الفراء: الطريقة الرجال الأشراف الذين هم قدوة لغيرهم يقال هم طريقة قومهم، ويقال للواحد أيضاً: هو طريقة قومه، وجعل الزجاج الآية من باب حذف المضاف أي ويذهبا بأهل طريقتكم المثلى، وعلى التقديرين، فالمراد أنهم كانوا يحرضون القوم بأن موسى وهارون عليهما السلام يريدان أن يذهبا بأشراف قومكم وأكابركم وهم بنوا اسرائيل لقول موسى عليه السلام: {أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسراءيل} [الشعراء: 17] وإنما سموا بني إسرائيل بذلك لأنهم كانوا أكثر القوم يومئذ عدداً وأموالاً ومن المفسرين من فسر الطريقة المثلى بالدين سموا دينهم بالطريقة المثلى: {وَكُلٌّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32] ومنهم من فسرها بالجاه والمنصب والرياسة.
البحث الثاني: {المثلى} مؤنثة لتأنيث الطريقة، واختلفوا في أنه لم سمى الأفضل بالأمثل فقال بعضهم: الأمثل: الأشبه بالحق، وقيل: الأمثل الأوضح والأظهر، ثم إنه تعالى لما حكى عنهم مبالغتهم في التنفير عن موسى عليه السلام والترغيب في إبطال أمره حكى عنهم أنهم قالوا: {فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائتوا صَفّاً} قرأ أبو عمرو بوصل الألف وفتح الميم من أجمعوا يعني لا تدعوا شيئاً من كيدهم إلا جئتم به دليله قوله: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} وقرأ الباقون بقطع الألف وكسر الميم وله وجهان:
أحدهما: قال الفراء: الإجماع الأحكام والعزيمة على الشيء، يقال: أجمعت على الخروج مثل أزمعت.
والثاني: بمعنى الجمع وقد مضى الكلام في هذا عند قوله: {فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ} [يونس: 71] قال الزجاج: ليكن عزمكم كلكم كاليد مجمعاً عليه لا تختلفوا ثم ائتوا صفاً، ذكر أبو عبيدة والزجاج وجهين:
أحدهما: أن الصف موضع الجمع والمعنى ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لعيدكم وصلاتكم، والمعنى: ائتوا مصلى من المصليات أو كان الصف علماً للمصلى بعينه فأمروا بأن يأتوه.
والثاني: أن يكون الصف مصدراً والمعنى ثم ائتوا مصطفين مجتمعين لكي يكون أنظم لأمركم وأشد لهيبتكم، وهذا قول عامة المفسرين، وقوله: {وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى} اعتراض، يعني: وقد فاز من غلب فكانوا يقرون بذلك أنفسهم فيما اجتمعوا عليه من إظهار ما يظهرونه من السحر.


{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)}
اعلم أنه لما تقدم ذكر الموعد وهو يوم الزينة وتقدم أيضاً قوله: {ثُمَّ ائتوا صَفّاً} [طه: 64] صار ذلك مغنياً عن قوله فحضروا هذا الموضع وقالوا: {إِمَّا أَن تُلْقِيَ} لدلالة ما تقدم عليه وقوله: {إِمَّا أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى} معناه إما أن تلقى ما معك قبلنا، وإما أن نلقى ما معنا قبلك، وهذا التخيير مع تقديمه في الذكر حسن أدب منهم وتواضع له، فلا جرم رزقهم الله تعالى الإيمان ببركته، ثم إن موسى عليه السلام قابل أدبهم بأدب فقال: {بَلْ أَلْقُواْ} أما قوله: {بَلْ أَلْقُواْ} ففيه سؤالان:
السؤال الأول: كيف يجوز أن يقول موسى عليه السلام: {بَلْ أَلْقُواْ} فيأمرهم بما هو سحر وكفر لأنهم إذا قصدوا بذلك تكذيب موسى عليه السلام كان كفراً.
والجواب من وجوه:
أحدها: لا نسلم أن نفس الإلقاء كفر ومعصية لأنهم إذا ألقوا وكان غرضهم أن يظهر الفرق بين ذلك الإلقاء وبين معجزة الرسول عليه السلام وهو موسى كان ذلك الإلقاء إيماناً وإنما الكفر هو القصد إلى تكذيب موسى وهو عليه السلام إنما أمر بالإلقاء لا بالقصد إلى التكذيب فزال السؤال.
وثانيها: ذلك الأمر كان مشروطاً والتقدير: ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين كما في قوله تعالى: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ إِن كُنتُمْ صادقين} [البقرة: 23] أي إن كنتم قادرين.
وثالثها: أنه لما تعين ذلك طريقاً إلى كشف الشبهة صار ذلك جائزاً.
وهذا كالمحق إذا علم أن في قلب واحد شبهة وأنه لو لم يطالبه بذكرها وتقريرها بأقصى ما يقدر عليه لبقيت تلك الشبهة في قلبه، ويخرج بسببها عن الدين فإن للمحق أن يطالبه بتقريرها على أقصى الوجوه ويكون غرضه من ذلك أن يجيب عنها ويزيل أثرها عن قلبه فمطالبته بذكر الشبهة لهذا الغرض تكون جائزة فكذا هاهنا.
ورابعها: أن لا يكون ذلك أمراً بل يكون معناه إنكم إن أردتم فعله فلا مانع منه حساً لكي ينكشف الحق.
وخامسها: أن موسى عليه السلام لا شك أنه كان كارهاً لذلك ولا شك أنه نهاهم عن ذلك بقوله: {وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} [طه: 61] وإذا كان الأمر كذلك استحال أن يكون قوله أمراً لهم بذلك لأن الجمع بين كونه ناهياً وآمراً بالفعل الواحد محال، فعلمنا أن قوله غير محمول على ظاهره وحينئذ يزول الإشكال.
السؤال الثاني: لم قدمهم في الإلقاء على نفسه مع أن تقديم استماع الشبهة على استماع الحجة غير جائز فكذا تقديم إيراد الشبهة على إيراد الحجة وجب أن لا يجوز لاحتمال أنه ربما أدرك الشبهة ثم لا يتفرغ لإدراك الحجة بعده فيبقى حينئذ في الكفر والضلال وليس لأحد أن يقول إن ذلك كان بسبب أنهم لما قدموه على أنفسهم فهو عليه السلام قابل ذلك بأن قدمهم على نفسه لأن أمثال ذلك إنما يحسن فيما يرجع إلى حظ النفس، فأما ما يرجع إلى الدليل والشبهة فغير جائز.
والجواب أنه عليه السلام كان قد أظهر المعجزة مرة واحدة فما كان به حاجة إلى إظهارها مرة أخرى والقوم إنما جاؤوا لمعارضته فقال عليه السلام: «لو أني بدأت بإظهار المعجزة أولاً لكنت كالسبب في إقدامهم على إظهار السحر» وقصد إبطال المعجزة وذلك غير جائز، ولكني أفوض الأمر إليهم حتى أنهم باختيارهم يظهرون ذلك السحر ثم أنا أظهر المعجز الذي يبطل سحرهم فيكون على هذا التقدير سبباً لإزالة الشبهة، وأما على التقدير الأول فإنه يكون سبباً لوقوع الشبهة فكان ذلك أولى.
أما قوله: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن عباس رضي الله عنهما: {أَلْقَوْاْ حبالهم وَعِصِيَّهُمْ} ميلاً من هذا الجانب وميلاً من هذا الجانب فخيل إلى موسى عليه السلام أن الأرض كلها حيات وأنها تسعى فخاف فلما قيل له: {أَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ} ألقى موسى عصاه فإذا هي أعظم من حياتهم ثم أخذت تزداد عظماً حتى ملأت الوادي ثم صعدت وعلت حتى علقت ذنبها بطرف القبة ثم هبطت فأكلت كل ما عملوا في الميلين والناس ينظرون إليها لا يحسبون إلا أنه سحر ثم أقبلت نحو فرعون لتبتلعه فاتحة فاها ثمانين ذراعاً فصاح بموسى عليه السلام فأخذها فإذا هي عصى كما كانت ونظرت السحرة فإذا هي لم تدع من حبالهم وعصيهم شيئاً إلا أكلته فعرفت السحرة أنه ليس بسحر وقالوا أين حبالنا وعصينا لو لم تكن سحراً لبقيت فخروا سجداً وقالوا: {آمنا بِرَبّ العالمين * رَبّ موسى وهارون} [الأعراف: 121، 122].
المسألة الثانية: اختلفوا في عدد السحرة قال القاسم بن سلام: كانوا سبعين ألفاً مع كل واحد عصا وحبل.
وقال السدي: كانوا بضعة وثلاثين ألفاً مع كل واحد عصا وحبل، وقال وهب: كانوا خمسة عشر ألفاً، وقال ابن جريج وعكرمة كانوا تسعمائة: ثلثمائة من الفرس وثلثمائة من الروم وثلثمائة من الاسكندرية.
وقال الكلبي: كانوا اثنين وسبعين ساحراً اثنان منهم من القبط وسبعون من بني إسرائيل أكرههم فرعون على ذلك، واعلم أن الاختلاف والتفاوت واقع في عدد كثير وظاهر القرآن لا يدل على شيء منه والأقوال إذا تعارضت تساقطت.
المسألة الثالثة: قال صاحب الكشاف: يقال في إذا هذه إذا المفاجأة والتحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصباً لها وجملة تضاف إليها خصت في بعض المواضع بأن تكون ناصباً فعلاً مخصوصاً وهو فعل المفاجأة والجملة ابتدائية لا غير فتقدير قوله تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ} ففاجأ موسى وقت تخيل سعي حبالهم وعصيهم وهذا تمثيل، والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي اه.
المسألة الرابعة: قرئ عصيهم بالضم وهو الأصل والكسر إتباع نحو دلي ودلي وقسي وقسي وقرئ تخيل بالتاء المنقوطة من فوق بإسناد الفعل إلى الحبال والعصي وقرئ بالضم بالياء المنقطة من تحت بإسناد الفعل إلى الكيد والسحر وقال الفراء أي يخيل إليه سعيها.
المسألة الخامسة: الهاء في قوله: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} كناية عن موسى عليه السلام والمراد أنهم بلغوا في سحرهم المبلغ الذي صار يخيل إلى موسى عليه السلام أنها تسعى كسعي ما يكون حياً من الحيات لا أنها كانت حية في الحقيقة ويقال إنهم حشوها بما إذا وقعت الشمس عليه يضطرب ويتحرك. ولما كثرت واتصل بعضها ببعض فمن رآها كان يظن أنها تسعى، فأما ما روي عن وهب أنهم سحروا أعين الناس وعين موسى عليه السلام حتى تخيل ذلك مستدلاً بقوله تعالى: {فَلَمَّا أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ الناس} [الأعراف: 116] وبقوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} فهذا غير جائز لأن ذلك الوقت وقت إظهار المعجزة والأدلة وإزالة الشبهة فلو صار بحيث لا يميز الموجود عن الخيال الفاسد لم يتمكن من إظهار المعجزة فحينئذ يفسد المقصود، فإذن المراد أنه شاهد شيئاً لولا علمه بأنه لا حقيقة لذلك الشيء لظن فيها أنها تسعى، أما قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى} فالإيجاس استشعار الخوف أي وجد في نفسه خوفاً، فإن قيل: إنه لا مزيد في إزالة الخوف على ما فعله الله تعالى في حق موسى عليه السلام فإنه كلمه أولاً وعرض عليه المعجزات الباهرة كالعصا واليد، ثم إنه تعالى صيرها كما كانت بعد أن كانت كأعظم ثعبان، ثم إنه أعطاه الاقتراحات الثمانية وذكر ما أعطاه قبل ذلك من المنن الثمانية ثم قال له بعد ذلك كله: {إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وأرى} [طه: 46] فمع هذه المقدمات الكثيرة كيف وقع الخوف في قلبه والجواب عنه من وجوه:
أحدها: أن ذلك الخوف إنما كان لما طبع الآدمي عليه من ضعف القلب وإن كان قد علم موسى عليه السلام أنهم لا يصلون إليه وأن الله ناصره وهذا قول الحسن.
وثانيها: أنه خاف أن تدخل على الناس شبهة فيما يرونه فيظنوا أنهم قد ساووا موسى عليه السلام ويشتبه ذلك عليهم وهذا التأويل متأكد بقوله: {لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} وهذا قول مقاتل.
وثالثها: أنه خاف حيث بدأوا وتأخر إلقاؤه أن ينصرف بعض القوم قبل مشاهدة ما يلقيه فيدوموا على اعتقاد الباطل.
ورابعها: لعله عليه السلام كان مأموراً بأن لا يفعل شيئاً إلا بالوحي فلما تأخر نزول الوحي عليه في ذلك الوقت خاف أن لا ينزل الوحي في ذلك الوقت فيبقى في الخجالة.
وخامسها: لعله عليه السلام خاف من أنه لو أبطل سحر أولئك الحاضرين فلعل فرعون قد أعد أقواماً آخرين فيأتيه بهم فيحتاج مرة أخرى إلى إبطال سحرهم وهكذا من غير أن يظهر له مقطع وحينئذ لا يتم الأمر ولا يحصل المقصود، ثم إنه تعالى أزال ذلك الخوف بالإجمال أولاً وبالتفصيل ثانياً، أما الإجمال فقوله تعالى: {قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} ودلالته على أن خوفه كان لأمر يرجع إلى أن أمره لا يظهر للقوم فآمنه الله تعالى بقوله: {إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} وفيه أنواع من المبالغة.
أحدها: ذكر كلمة التأكيد وهي إن.
وثانيها: تكرير الضمير.
وثالثها: لام التعريف.
ورابعها: لفظ العلو وهو الغلبة الظاهرة وأما التفصيل فقوله: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} وفيه سؤال، وهو أنه لمَ لم يقل وألق عصاك.
والجواب: جاز أن يكون تصغيراً لها أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي بيمينك فإنه بقدرة الله تعالى يتلقفها على وحدته وكثرتها وصغره وعظمها وجائز أن يكون تعظيماً لها أي لا تحتفل بهذه الأجرام الكثيرة فإن في يمينك شيئاً أعظم منها كلها وهذه على كثرتها أقل شيء عندها فألقه يتلقفها بإذن الله تعالى ويمحقها، أما قوله: {تَلْقَفْ} أي فإنك إذا ألقيتها فإنها تلقف ما صنعوا قراءة العامة تلقف بالجزم والتشديد أي فألقها تتلقفها وقرأ ابن عامر تلقف بالتشديد وضم الفاء على معنى الحال أي ألقها متلقفة أو بالرفع على الاستئناف، وروى حفص عن عاصم بسكون اللام مع التخفيف أي تأخذ بفيها ابتلاعاً بسرعة واللقف والتلقف جميعاً يرجعان إلى هذا المعنى، وصنعوا هاهنا بمعنى اختلقوا وزوروا والعرب تقول في الكذب: هو كلام مصنوع وموضوع وصحة قوله: {تَلْقَفْ} أنه إذا ألقى ذلك وصارت حية تلقفت ما صنعوا وفي قوله: {فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً} [طه: 70] دلالة على أنه ألقى العصا وصارت حية وتلقفت ما صنعوه وفي التلقف دلالة على أن جميع ما ألقوه تلقفته وذلك لا يكون إلا مع عظم جسدها وشدة قوتها. وقد حكى عن السحرة أنهم عند التلقف أيقنوا بأن ما جاء به موسى عليه السلام ليس من مقدور البشر من وجوه:
أحدها: ظهور حركة العصا على وجه لا يكون مثله بالحيلة.
وثانيها: زيادة عظمه على وجه لا يتم ذلك بالحيلة.
وثالثها: ظهور الأعضاء عليه من العين والمنخرين والفم وغيرها ولا يتم ذلك بالحيلة.
ورابعها: تلقف جميع ما ألقوه على كثرته وذلك لا يتم بالحيلة.
وخامسها: عوده خشبة صغيرة كما كانت وشيء من ذلك لا يتم بالحيلة ثم بين سبحانه وتعالى أن ما صنعوا كيد ساحر والمعنى أن الذي معك يا موسى معجزة إلهية والذي معهم تمويهات باطلة فكيف يحصل التعارض. وقرئ كيد ساحر بالرفع والنصب فمن رفع فعلى أن ما موصولة ومن نصب فعلى أنها كافة وقرئ كيد سحر بمعنى ذي سحر أو ذوي سحر أو هم لتوغلهم في سحرهم كأنهم السحر بعينه وبذاته أو بين الكيد لأنه يكون سحراً وغير سحر، كما يبين المائة بدرهم ونحوه علم فقه وعلم نحو، بقي سؤالات:
السؤال الأول: لم وحد الساحر، ولم يجمع.
الجواب: لأن القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية لا إلى معنى العدد فلو جمع تخيل أن المقصود هو العدد ألا ترى إلى قوله: {وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى} أي هذا الجنس.
السؤال الثاني: لم نكر أولاً ثم عرف ثانياً.
الجواب: كأنه قال: هذا الذي أتوا به قسم واحد من أقسام السحر وجميع أقسام السحر لا فائدة فيه ولا شك أن هذا الكلام على هذا الوجه أبلغ.
السؤال الثالث: قوله: {وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى} يدل على أن الساحر لا يحصل له مقصوده بالسحر خيراً كان أو شراً وذلك يقتضي نفي السحر بالكلية.
الجواب: الكلام في السحر وحقيقته قد تقدم في سورة البقرة فلا وجه للإعادة، والله أعلم.


{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)}
اعلم أن في قوله: {فَأُلْقِىَ السحرة سُجَّداً} دلالة على أنه ألقى ما في يمينه وصار حية تلقف ما صنعوا وظهر الأمر فخروا عند ذلك سجداً وذلك لأنهم كانوا في الطبقة العليا من علم السحر فلما رأوا ما فعله موسى عليه السلام خارجاً عن صناعتهم عرفوا أنه ليس من السحر ألبتة ويقال: قال رئيسهم كنا نغالب الناس بالسحر وكانت الآلات تبقى علينا لو غلبنا فلو كان هذا سحراً فأين ما ألقيناه فاستدلوا بتغير أحوال الأجسام على الصانع العالم القادر وبظهورها على يد موسى عليه السلام على كونه رسولاً صادقاً من عند الله تعالى، فلا جرم تابوا وآمنوا وأتوا بما هو النهاية في الخضوع وهو السجود، أما قوله تعالى: {فَأُلْقِىَ السحرة سُجَّداً} فليس المراد منه أنهم أجبروا على السجود إلا لما كانوا محمودين بل التأويل فيه ما قال الأخفش وهو أنهم من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا، وقال صاحب الكشاف: ما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود. فما أعظم الفرق بين الإلقاءين، وروى أنهم لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار ورأوا ثواب أهلها.
وعن عكرمة: لما خروا سجداً أراهم الله في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة.
قال القاضي: هذا بعيد لأنه تعالى لو أراهم عياناً لصاروا ملجئين، وذلك لا يليق به قولهم: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خطايانا} [طه: 73]. وجوابه: لما جاز لإبراهيم عليه السلام مع قطعه بكونه مغفوراً له أن يقول: {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِي} [الشعراء: 82] فلم لا يجوز مثله في حق السحرة، واعلم أن هذه القصة تنبه على أسرار عجيبة من أمور الربوبية ونفاذ القضاء الإلهي وقدره في جملة المحدثات، وذلك لأن ظهور تلك الأدلة كانت بمرأى من الكل ومسمع فكان وجه الاستدلال فيها جلياً ظاهراً وهو أنه حدثت أمور فلابد لها من مؤثر والعلم بذلك ضروري، وذلك المؤثر إما الخلق، وإما غيرهم. والأول بديهي البطلان لأن كل عاقل يعلم بالضرورة من نفسه أنه لا يقدر على إيجاد الحيوانات وتعظيم جثتها دفعة واحدة ثم يصغرها مرة أخرى كما كانت وهذه العلوم الجلية متى حصلت في العقل أفادت القطع بأنه لابد من مدبر لهذا العالم، فماذا يقول ألا ترى أن أولئك المنكرين جهلوا صحة هذه المقدمات وهذا في نهاية البعد، لأنا بينا أن كل واحد منها بحيث لا يمكن ارتياب العاقل فيه وإذاً فقد عرفوا صحتها لكنهم أصروا على الجهل وكرهوا تحصيل العلم والسعادة لأنفسهم وأحبوا تحصيل الجهل والشقاوة لأنفسهم ما أرى أن عاقلاً يرضى بذلك لنفسه قط، فلم يبق إلا أن يقال: العقل والدليل لا يكفي بل لابد من مدبر يخلق هذه المقدمات في القلوب، ويخلق الشعور بكيفية ترتيبها وبكيفية استنتاجها للنتيجة حتى أنه متى فعل ذلك حصلت النتائج في القلوب وذلك يدل على أن الكل بقضائه وقدره فإنه لا اعتماد على العقول والقلوب في مجاريها وتصرفاتها ومن طرح التعصب عن قلبه ونظر إلى أحوال نفسه في مجاري أفكاره وأنظاره ازداد وثوقاً بما ذكرناه.
أما قوله: {قَالُواْ آمَنَّا بِرَبّ هارون وموسى} فاعلم أن التعليمية احتجوا بهذه الآية وقالوا: إنهم آمنوا بالله الذي عرفوه من قبل هارون وموسى فدل ذلك على أن معرفة الله لا تستفاد إلا من الإمام، وهذا القول ضعيف بل في قولهم: {امَنَّا بِرَبّ هارون وموسى} فائدتان سوى ما ذكروه.
الفائدة الأولى: وهي أن فرعون ادعى الربوبية في قوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24] والإلهية في قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38] فلو أنهم قالوا: آمنا برب العالمين لكان فرعون يقول: إنهم آمنوا بي لا بغيري فلقطع هذه التهمة اختاروا هذه العبارة، والدليل عليه أنهم قدموا ذكر هارون على موسى لأن فرعون كان يدعي ربوبيته لموسى بناء على أنه رباه في قوله: {أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً} [الشعراء: 18] فالقوم لما احترزوا عن إيهامات فرعون لا جرم قدموا ذكر هارون على موسى قطعاً لهذا الخيال.


الفائدة الثانية: وهي أنهم لما شاهدوا أن الله تعالى خصهما بتلك المعجزات العظيمة والدرجات الشريفة لا جرم قالوا: رب هارون وموسى لأجل ذلك، ثم إن فرعون لما شاهد منهم السجود والإقرار خاف أن يصير ذلك سبباً لاقتداء سائر الناس بهم في الإيمان بالله تعالى وبرسوله ففي الحال ألقى شبهة أخرى في النبي فقال: {قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر} وهذا الكلام مشتمل على شبهتين. إحداهما: قوله: {ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لكم} وتقريره أن الاعتماد على الخاطر الأول غير جائز بل لابد فيه من البحث والمناظرة والاستعانة بالخواطر، فلما لم تفعلوا شيئاً من ذلك بل في الحال: {آمنتم له} دل ذلك على أن إيمانكم ليس عن البصيرة بل عن سبب آخر.
وثانيها: قوله: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر} يعني أنكم تلامذته في السحر فاصطلحتم على أن تظهروا العجز من أنفسكم ترويجاً لأمره وتفخيماً لشأنه، ثم بعد إيراد الشبهة اشتغل بالتهديد تنفيراً لهم عن الإيمان وتنفيراً لغيرهم عن الاقتداء بهم في ذلك فقال: {لأُقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ} قرئ لأقطعن ولأصلبن بالتخفيف. والقطع من خلاف أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى لأن كل واحد من العضوين خلاف الآخر، فإن هذا يد وذاك رجل وهذا يمين وذاك شمال وقوله: {مّنْ خلاف} في محل النصب على الحال أي: لأقطعنها مختلفات لأنها إذا خالف بعضها بعضاً فقد اتصفت بالاختلاف ثم قال: {وَلأُصَلّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} فشبه تمكن المصلوب في الجذع يتمكن الشيء الموعى في وعائه فلذلك قال في جذوع النخل والذي يقال في المشهور أن في بمعنى على فضعيف ثم قال: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى} أراد بقوله: {أَيُّنَا} نفسه لعنه الله لأن قوله: {أَيُّنَا} يشعر بأنه أراد نفسه وموسى عليه السلام بدليل قوله: {آمنتم له} وفيه تصالف باقتداره وقهره وما ألفه من تعذيب الناس بأنواع العذاب واستضعاف موسى عليه السلام مع الهزء به لأن موسى عليه السلام قط لم يكن من التعذيب في شيء، فإن قيل: إن فرعون مع قرب عهده بمشاهدة انقلاب العصا حية بتلك العظمة التي شرحتموها وذكرتم أنها قصدت ابتلاع قصر فرعون وآل الأمر إلى أن استغاث بموسى عليه السلام من شر ذلك الثعبان فمع قرب عهده بذلك وعجزه عن دفعه كيف يعقل أن يهدد السحرة ويبالغ في وعيدهم إلى هذا الحد ويستهزئ بموسى عليه السلام في قوله: {أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى} قلنا لم لا يجوز أن يقال: إنه كان في أشد الخوف في قلبه إلا أنه كان يظهر تلك الجلادة والوقاحة تمشية لناموسه وترويجاً لأمره، ومن استقرى أحوال أهل العالم علم أن العاجز قد يفعل أمثال هذه الأشياء، ومما يدل على صحة ذلك أن كل عاقل يعلم بالضرورة أن عذاب الله أشد من عذاب البشر، ثم إنه أنكر ذلك، وأيضاً فقد كان عالماً بكذبه في قوله: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر} لأنه علم أن موسى عليه السلام ما خالطهم ألبتة وما لقيهم وكان يعرف من سحرته أن أستاذ كل واحد من هو وكيف حصل ذلك العلم، ثم إنه مع ذلك كان يقول هذه الأشياء فثبت أن سبيله في كل ذلك ما ذكرناه وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا في أول النهار سحرة، وفي آخره شهداء.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8